منى أبوزيد – هناك فرق – في الأبعاد والزوايا!
“لم أولد لأعرف أنني سأموت، بل لأحبّ محتويات ظلّ الله، يأخذني الجمال إلى الجميل …. لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً، تلك أَرواحٌ تُغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها”.. محمود درويش!
مشهد بعض أفراد الدعم السريع وهم يحيطون بقبر قائدهم البيشي – أحدهم يخطب، وبعضهم يترحَّم، وبعضهم الآخر ينتحب – كان يقول الكثير ويختزل كل شيء. إنه الموت الذي ينتهي إليه القاتل والمغتصب والمجرم، وشهيد الحرب وشهيد المال وشهيد العرض، والمغدور ظلماً والمقتول قصاصاً!
كلهم ينزلون إلى ذات القبر وكلهم يُهال عليهم نفس التراب، وكلهم يحاسبون عند مليكٍ مقتدر. ولكن ماذا عن حسابات البشر، ماذا عن أحكامهم النهائية غير القابلة للنقض، ماذا عن مشروعية الدعاء بالرحمة والمغفرة ودخول الجنة، هل يستوي الذين يقتلون والذين لا يقتلون..؟
في اليومين الماضيين ضجت الأسافير بموقفين أحدهما للسيدة زينب الصادق المهدي التي دعت بالرحمة للبيشي واحتسبته شهيداً، وردت على من انتقدها بأن مفاتيح جهنم ليست عنده، وبأنها تدعو بالرحمة لكل موتى الطرفين في هذه الحرب..!
الموقف الآخر كان للشاعر بشرى البطانة الذي تبنى وساطة لإطلاق سراح بعض مقاتلي الجيش – الذين أسرتهم قوات كيكل التابعة للدعم السريع – وقدم لذلك ببعض أبيات الشعر التي ينظمها طالب الحاجة في مدح المطلوب..!
وقد رد على من انتقدوه بحديثه عن وساطة بعض كبار شيوخ الصوفية بالكلام الطيب والحديث اللين لدى قادة الدعم السريع لإطلاق سراح بعض الأسرى من ضباط الجيش..!
قد نتفق – أنت وأنا – مع خصوصية موقف الشاعر بشرى البطانة وقد نختلف مع التعميم الذي ينطوي عليه موقف السيدة زينب الصادق، لكن الحقيقة المؤكدة هي أن كلا الموقفين لم يصيبا كاتبة هذه السطور بأدنى قدر من الدهشة..!
ليس بسبب موقف أحدهما من الجيش أو موقف الآخر من الدعم السريع، ولكن لأن هذه هي – ببساطة – حال بعض الناس ومواقف بعضهم الآخر عند اندلاع الحروب الأهلية – بين المكونات العسكرية أو الفئات القبلية – التي تنتمي إلى ذات النسيج الاجتماعي والسياج الوطني..!
مهما تمترستْ الأطراف ومهما كانت العداوة هي سيدة المواقف، لا يمتلك أكثر الناس وعياً وحصافةً ولا يستطيع أكثر الناس بغضاً وعداوةً للآخر أن يجتنب تراجع بعض أحكامه المسبقة في مواجهة تعقيدات وتشابك خيوط التداخل القبلي أو حقوق الجوار التي تفرضها وحدة المواطنة أحياناً بين المتقاتلين..!
هذه حقيقة لكن ليس شرطاً أن نقبلها وليس واجباً علينا أن نحتفي بها، لكن الحكمة تقتضي أن نتقبل بعض صورها القاسية علي نفوسنا، أن نبتلع بعض تمظهراتها المُقرفة، رغم بؤس الطعم ومرارة المذاق..!
إنها حروب الملة الواحدة التي يُقتل فيها الحسين بن علي وتُستباح فيها المدينة المنورة بواقعة الحرة، ويُهدم فيها جدار الكعبة – بفعل قصف منجنيق الحجاج بن يوسف الثقفي – في عهد يزيد بن معاوية، ومع ذلك لا يعدم يزيد ولا يعدم الحجاج من يدافع عنهما، ومن يجتهد في تدبيج الحجج لإبراء ساحة هذا الخليفة أو ذاك القائد..!
إنها الحروب الأهلية التي يقتل ويغتصب وينهب فيها المواطنون مواطنيهم، ومع ذلك يفرح ضحاياهم الأبرياء والعُزَّل – اللا مُنتمون سياسياً واللا مُنضوون عسكرياً – بأي بشائر لحلول السلام، ويهللون لأي مظاهر لعودة الحياة الآمنة. كيف لا يفرحون وهم وحدهم الذين يدفعون الثمن!.
munaabuzaid2@gmail.com
صحيفة الكرامة